فصل: تفسير الآية رقم (162):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (159):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [159].
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} أي: اختلفوا فيه، مع وحدته في نفسه، فجعلوه أهواء متفرقة: {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي: فرقاً تشيع كل فرقة إماماً لها بسحب غلبة تلك الأهواء.
فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي: من عقابهم. أو أنت بريء منهم محميّ الجناب عن مذاهبهم. أو المعنى: اتركهم فإن لهم مالهم.
وقال القاشاني: أي: لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء. إذ هم أهل التفرقة لا يجتمع هممهم، ولا يتحد قصدهم: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ} أي: في جزاء تفرقهم ومكافأتهم، لا إليك: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم} يعني إذا وردوا يوم القيامة: {بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي: من السيئات والتفرقة، لمتابعة الأهواء. ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم.
تنبيه:
قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وروى العوفي عن ابن عباس في الآية، أن اليهود والنصارى اختفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة. وآخر على الخوارج، وأسندوا في ذلك حديثاً رفعوه.
قال ابن كثير: وإسناد ذلك لا يصحّ. ثم قال: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق. فمن اختلف فيه {وكانوا شيعاً} أي: فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد بّرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [الشورى 13]. وفي الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلاَّت. ديننا واحد». فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء. والرسل برءاء منها كما قال الله تعالى: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، ثم قال: وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17] انتهى.
وقد أخرج أبو داود عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا إِنَّ مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة. وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين. اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة». ورواه الترمذي عن عبد الله بن عَمْرو، وفيه: قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي.
ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة. فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (160):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [160].
{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} أي: جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} يعني: عشر حسنات أمثالها في الحسن.
قال المهايمي: كمن أهدى إلى سلطان عنقود يعطيه بما يليق بسلطنته، لا قيمة العنقود. انتهى. والعشر أقل ما وعد من الأضعاف. وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبعمائة وبغير حساب. ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ} أي: بالأعمال السيئة: {فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} في القبح.
قال المهايمي: فمن كفر خلد في النار، فإنه ليس أقبح من كفره. كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله. ومن فعل معصية عذب بقدرها كمن أساء إلى آحاد الرعية. انتهى.
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: بنقص الثواب وزيادة العقاب.
لطيفة:
قال القاشاني في قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}: هذا أقل درجات الثواب. وذلك أن الحسنة تصدر بظهور القلب والسيئة بظهور النفس. فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام القلب الذي يتلوا مقام النفس في الارتقاء، تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد. وأما في السيئة فلأنه لا مقام أدون من مقام النفس. فينحط إليه بالضرورة. فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل. ومن هذا يعلم أن الثواب من باب الفضل. فإنه يزيد به صاحبه ويتنورّ استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق. فيتقوى على أضعاف ما فعل ويكتسب به أجوراً متضاعفة إلى غير نهاية، بازدياد القبول على فعل كل حسنة وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله. كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة 261]، وأن العقاب من باب العدل إذ العدل يقتضي المساواة. ومن فعل بالنفس، إذا لم يعف عنه، يجازي بالنفس سواء. انتهى.
تنبيه:
وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية. فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيما يروي عن ربه تعالى: «إن ربكم تبارك وتعالى رحيم. من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله إلا هالك». ورواه البخاريّ ومسلم والنسائيّ. وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أو أزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً،من تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئاً، لقيته بمثلها مغفرة». وروى الشيخان عن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» لفظ البخاري. وروى الطبراني عن أبي مالك الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام. وذلك لأن الله تعالى قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}». وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله». ورواه النسائي والترمذيّ وزاد: فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، اليوم بعشرة أيام. وبقيت أخبار أخرى. وفيما ذكر كفاية.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه عليه، من إرشاده إلى دينه القويم بقوله:

.تفسير الآية رقم (161):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [161].
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده المخلصين: {دِيناً} نصب على البلد من محل {إلى صراط} لأن معناه هداني صراطاً.
بدليل قوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء 175]، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور. أي: عرفني ديناً. أو مفعول {هداني}. وهدى يتعدى إلى اثنين: {قِيَماً} صفة {ديناً} يقرأ بالتشديد أي: ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل، ولا تنسخه الشرائع والكتب، مقوماً لأمر المعاش والمعاد. ويقرأ بالتخفيف. على أنه مصدر نعت به. وأصله قوَم كَعِوَض. فأُعلَّ لإعلال فعله كالقيام {مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} المتفق على صحتها وهي التي أعرض بها عن كل ما سواه تعالى. عطف بيان لـ: {ديناً}: {حَنِيفاً} حال من: {إِبْرَاهِيمَ} أي: مائلاً عن كل دين وطريق باطل، فيه شركٌ ما، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من عقد وعمل. أي: ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلاً وفرعاً. صرح بذلك ردّاً على الذين يدعون أنهم على ملته من مشركي مكة واليهود والنصارى. أفاده أبو السعود.
تنبيه:
قال ابن كثير: هذه الآية كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية، أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها. لأنه عليه السلام قام بها قياماً عظيماً، وأكملت له إكمالاً تامّاً لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال. ولهذا قال: أنا خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق، حتى الخليل عليه السلام، وروى ابن مردويه عن ابن أَبْزَى عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا وملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين». وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي: الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الحنيفية السمحة»، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زَفْنِ الحبشة. حتى كنت التي مللت، فانصرفت عنهم. وقالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «ليعلم يهود أن في ديننا فسحة. إني أرسلت بحنيفية سمحة».

.تفسير الآية رقم (162):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [162].
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي} لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع، وما سبق بأصولها. أي: إن صلاتي إلى الكعبة: {وَنُسُكِي} أي: طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة، أو عبادتي كلها: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أي: وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح. أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير. أو الحياة والممات أنفسهما: {لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

.تفسير الآية رقم (163):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [163].
{لاَ شَرِيكَ لَهُ} أي: خالصة لله لا أشرك فيها غيره: {وَبِذَلِكَ} أي: القول أو الإخلاص: {أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أي: من هذه الأمة. لأن إسلام كل نبيّ متقدم على إسلام أمته.
قال ابن كثير: يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك. فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له.

.تفسير الآية رقم (164):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [164].
{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً} فأشركه في عبادته، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم، وفي إيثار نفي البغية والطلب، على نفي العبادة، أبلغيّة لا تخفى: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} حال في موضع العلة للإنكار والدليل له. أي: وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية، فلا أكون عبداً لعبده.
قال ابن كثير: أي: فلا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه. لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل. كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له. وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً. كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود 123]، وقوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك 29]. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 9] وأشباه ذلك من الآيات.
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
قال ابن كثير: إخبار عن الواقع يوم القيامة من جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد. وهذا من عدله تعالى.
وقال أبو السعود: كانوا يقولون للمسلمين: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا- فهذا رد له بالمعنى الأول. أي: لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها. ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر، حتى يتأتى ما ذكرتم، وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} رد له بالمعنى الثاني. أي: لا تحمل يومئذ نفس حاملة، حمل نفس أخرى، حتى يصح قولكم.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: هذه الآية أصل في أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد، وقد ردت عائشة به على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه. أخرجه البخاري، وأخرج ابن أبي حاتم عنها، أنها سئلت عن ولد الزنى؟ فقال ليس عليه من خطيئة أبويه شيء. وتلت هذه الآية.
قال: الكيا الهراسيّ: ويحتج بقوله: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} في عدم نفوذ تصرف زيد على عَمْرو إلاَّ ما قام عليه الدليل. قال ابن الفرس: واحتج به من أنكر ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام.
وقال بعض الزيدية: قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يعني في أمر الآخرة. فيبطل قول إن أطفال المشركين يعذبون بكفر آبائهم. ويلزم أن لا يعذب الميت ببكاء أهله عليه. حيث لا سبب له. وأما في أمر الدنيا، فقد خص هذا بحديث العاقلة، وكذلك أسر أولاد الكفار ونحو ذلك. انتهى.: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} أي: رجوعكم بعد الموت يوم القيامة: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} يتميز الحق من الباطل. وهذه الآية كقوله تعالى: {قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 25- 26].